‘‘صنعاء مابتشبه حدا’’… رحلتي إلى اليمن حيث تغيّرت (1 من 2)

كنت أشعر بأن وجودي في اليمن أهم من وجودي في عمان في ذلك الوقت. وكان الغريب في أن اللغة كانت هي الأقدر على قراءة الواقع بحيثياته وعلى نحو غير مقصود، ففي أيامي الأولى كنت أقول إنني لا أريد العودة إلى عمان، ومن ثم وجدت نفسي أردد: لا أريد أن أترك صنعاء الآن.
حين قررت السفر، لم يكن مهماً آنذاك إلى أين، فكانت اليمن! كنت مستعدة لنسيان كل شيء، لا أذكر بأنني أخذت معي أي شيء يذكرني بلا شيء.
بدأت الأوضاع تشتد صعوبة في الفترة الأخيرة؛ اليمن بلا كهرباء، وبلا مياه. اضطُررت بالشهر الأخير للانتقال من منزلي إلى آخر في "حدا كامباوند" على مقربة من البريد اليمني، وذلك بسبب الوضع الأمني، وأن أدفع جراء ذلك 1300 دولار. وبالإضافة إلى ذلك دخلت أزمة البترول. عند الحديث عن أزمة البترول في بلد تعيش أزمة كهرباء أصلاً، فلا يعني ذلك على وجه التحديد أنه ليس بمقدورك العثور على سيارة أجرة على الطريق، بل ليس هنالك بترول لسيارة الإسعاف! أو أنه ليس هناك بترول لمولدات الكهرباء التي يستوردها نجل "وزير الظلام" (التسمية التي أطلقها اليمنيون على وزير الكهرباء في اليمن خلال الأزمة وعقب كشف وتناقل وسائل الإعلام الخبر: نجل وزير الكهرباء تاجر مواطير.
كنت في حالة سيئة لم أعهدها من قبل، خاصة بعد الحرب الأخيرة وعودتي أسرع مما توقعت على الرغم من أننا في الأسابيع الأخيرة كان كل ما نفعله هو اللاشيء، إذ كنا بانتظار الحرب.
بداية السفر إلى اليمن
عندما أتيت إلى صنعاء، كان أول ما لفت أنتباهي في شارع عمان والذي يقع في الحي السياسي حيث كنا نقطن، وهي صدفة بالمناسبة، تلك الأسوار الكبيرة وأبواب البيوت الحديدية العالية والجهنّمية. كانت مزروعة في نواحٍ متفرقة من الحي وكان ينتابني شعور غريب ودافئ يعيدني لأيام الطفولة في كل يوم.
اليمن من الدول التي لا تتميز بـبراندنغ محدد بل كانت تبدو كمدينة بُنّية اللون.
في صنعاء كانت الحواس الخمس تعمل بطريقة مختلفة؛ فمنذ اليوم الأول باءت محاولاتي بالفشل في التقاط رائحة المدينة، وكانت المفاجأة تنتظرني على "باب اليمن"، فرائحة صنعاء القديمة كانت تشبه إلى حد بعيد رائحة أسواق دمشق!
وفي اليمن، أوقات الفراغ لها علاقة بالطعام لا محالة! كنت أذهب برفقة بعض الأصدقاء لتناول الغداء في مطعم صغير في صنعاء يسمى "ريف" يقع على مقربة من "جولة كنتاكي" (جولة تعني دوار)، وهو مطعم حضرمي يقدم صنفاً مميزاً من الطعام: دجاج بالمرق. كنا نذهب خصيصاً في وقت الغداء حيث يكون المطعم مزدحماً جداً، كان غالبية مرتاديه من العمال، باعة البقالات وبائعي القات في المناطق المجاورة، ولا يمكن لك إلا أن تلاحظ الصخب والحركة الدائمة في هذا المطعم الصغير، عمال يدخلون، وآخرون أنهوا طعامهم للتو. بإمكانك تناول الوجبة بسرعةٍ والجلوس في أول مقعد خالٍ تجده أمام. كانوا وكأنهم عائلة، الجميع منهمك في هذه المساحة وفي الحصول على وجبة الغداء فقط!
مناخ مدينة صنعاء ربيعي في الصيف دافئ في الشتاء، تعد من أقدم المدن المأهولة باستمرار ولها تاريخ من القرن الخامس قبل الميلاد. تقع صنعاء في وسط البلاد في منطقة جبلية على جبال السروات. كانت المدينة قديماً لا تحتل سوى مساحة صغيرة من قاع صنعاء الفسيح الذي يمتد من جبل نقم شرقاً وجبل عيبان غرباً، وفي القرون الأخيرة استحدثت في غربها بير العزب التي تلاصقها وتفوقها مساحة وكان للوجود العثماني اليد الطولى في إنشائها، وفي غربي بير العزب أقيم في القاع في القرن السابع عشر حي يهود صنعاء.
قرية بيت بوس كانت من أهم المواقع التي يمكن زيارتها في اليمن، وتقع في ضواحي مدينة صنعاء. وهي قرية ذات طبيعة جبلية وتتميز في موقعها والذي يشكل حصناً دفاعياً يجعلها بمعزل عن الغزاة، فهي محمية من ثلاثة اتجاهات الشرق والشمال والغرب. أول ما يُلاحظ عند الدخول من البوابة هو اللون الأخضر الذي تصطبغ به الطبيعة الصخرية في تلك المنطقة وتعكس غناءها بالمعادن والحجر المستخدم في بناء القرية. كان يسكن القريةَ يهود اليمن حيث تتوزع دور حجرية صغيرة بسيطة في أرجاء المكان، ويوجد فيها كهف وقلعة صغيرة تعد معلماً سياحياً.
صنعاء ما بتشبه حدا!
كانت تبدو كما تخيلتها في الغالب؛ تملأ شوارعها السيارات القديمة، بنايات مشيدة من الجص والطوب إلى جانب بنايات حديثة في الشارع نفسه، في البداية كان عصياً على الفهم بالنسبة لي وجود كل هذه الصيدليات بكثرة! "بين كل صيدلية وصيدلية في صيدلية"، كان من الغريب أن يحدث ذلك في بلد يسافر مواطنوها إلى الخارج للنجاة والحصول على علاج أساسا! إلى أن قابلت طبيبة صيدلانية بالصدفة، وعرفت منها الجواب والذي لم يكن بعيداً عن تحويل الدواء إلى سلعة فالصيدلة تجارة رائجة في اليمن.
"الناس بيشبهوا الأرض هون" هذه هي الصورة التي كانت تستحضرني كلما سئلت عن الناس باليمن، لم يكن الناس في اليمن "مختلفين"-كانوا على طبيعتهم، بل كانوا وعلى اختلافهم- يختلفون عن جميع الناس الذي كنت قد قابلتهم في حياتي آنذاك. وليس ذلك فحسب، المسلمون في اليمن ليسوا كالمسلمين في عمان.
الحياة في اليمن محكومة بالتقاليد والأعراف، حيث النسيج القبلي أكثر القوى فعالية، والقبائل فيها أقدم من الدول والحدود التي تقوم بينها، وحيث تحتاج للسلاح لإظهار القوة.
صنعاء كلما كبرت بتصير أحلى!
الحياة تبدو على غير العادة. في صنعاء كانت الحواس الخمس تعمل بطريقة مختلفة؛ فمنذ اليوم الأول باءت محاولاتي بالفشل في التقاط رائحة المدينة، وكانت المفاجأة تنتظرني على "باب اليمن"، فرائحة صنعاء القديمة كانت تشبه إلى حد بعيد رائحة أسواق دمشق! وكانت مميزة للغاية. رائحة الصابون والتوابل المنتشرة. وتملأ أحياءها صيحات الباعة، لكنها على خلاف الأسواق العربية القديمة فلا أثر للسياح فيها!
الجامع الكبير بصنعاء القديمة هو أحد أقدم المساجد الإسلامية. عثر علماء الآثار قبل سنوات ماضية على آثار سراديب وآثار لبناء قديم لا زالت تلك الآثار تحت الدراسة، وقد اكتُشف قبلها بسنوات أثناء إزالة الجص من الجدران عن وجود اثني عشر مصحفاً قديماً بلغات مختلفة، منها ما كُتب باللغة السريانية وأحدها كُتب بخط الإمام علي، بالإضافة إلى أربعة آلاف مخطوطة عربية نادرة. يذكر بأن أمطار غزيرة هطلت على صنعاء عام 1965 ألحقت أضراراً في سقف المسجد، وخلال أعمال الترميم اكتشف العمال قبواً كبيراً يحتوي على آلاف من المخطوطات القرآنية التي عرفت بمخطوطات صنعاء، وافقت هيئة الآثار اليمنية المساعدة في ترميم المخطوطات وصيانتها بدعم من الحكومة الألمانية.
بيوت صنعاء
بنيت منازلها من الآجر وطوب الطين المجفف، تغلب عليها رسومات رقيقة ومنحنيات وزوايا حادة خاصة بالعمارة اليمنية، وينعكس ذلك في مراعاتها في التصميم للموقع الجغرافي، إذ تخصص عمارة المباني الواجهة الجنوبية للمجالس والغرف، والشمالية لدورات المياه والمطابخ و"بيت الشربة". بالإضافة لاستخدام مواد بناء تقوم باكتساب وخزن الحرارة نهاراً لتدفئة المنزل، واستخدام الجص على الأسطح لتسهيل عملية تصريف المياه عبر مزاريب إلى الخارج. تتكون مبانيها السكنية من طوابق تتراوح بين ثلاثة إلى سبعة طوابق تتوزع عليها الفضاءات المختلفة من فناء المنزل إلى المداخل وصالات التوزيع والسلالم الداخلية والمجالس وهي عدة أنواع، منها الديوان والطيرمانة.
مدينة صنعاء القديمة مدرجة على قائمة المواقع التراثية لمنظمة اليونسكو، وقد تم إدراجها من قبل المؤرخ عبد الرحمن الحداد، والد صديقتَيّ ماجدة وسامية الحداد، وهما ناشطتان في العمل المجتمعي على الصعيدين المحلي والعربي. ماجدة كانت ناشطة في مجال التعليم وكانت سامية متخصصة في السيولوجي ولها باع طويل مع منظمة اليونيسف.
تنتشر في صنعاء القديمة عشرات الحارات والأماكن القديمة الأثرية، فهناك مثلاً غرقة القليس، وهي الكنيسة التي بناها أبرهة الحبشي ليحج إليها العرب، كما أنه بإمكانكم أن تروا العديد من المقاشم
تشتهر المدينة بالعديد من الصناعات الحرفية واليدوية وتتوارث الحرف أسر محددة جيلاً بعد جيل، وأهمها صناعة الفضة وهي حرفة يهود اليمن، إذ تحتوي صنعاء على العديد من الأسواق الشعبية كسوق النحاس، سوق العنب، سوق القات، سوق المعدات الزراعية والصناعية، سوق الصرافة، وغيرها الكثير.
تنتشر في صنعاء القديمة عشرات الحارات والأماكن القديمة الأثرية، فهناك مثلاً غرقة القليس، وهي الكنيسة التي بناها أبرهة الحبشي ليحج إليها العرب، كما أنه بإمكانكم أن تروا العديد من المقاشم (جمع مقشمة، وهي قطع زراعية من أجمل ما يوجد في فن عمارة الحارات)، إذ يوجد في كل حارة مقشمة وهي متنفس ومصدر للخضروات والفواكه لسكان المدينة.
وفي إحدى الحارات القديمة حيث يقع فندق "برج السلام". كان هذا الفندق قديماً إحدى ناطحات السحاب التقليدية اليمنية القديمة، أعيد ترميمه ليصبح ما هو عليه اليوم، إذ حافظ الفندق على طابعه الأساسي، مثل اللون والخامات، ويمزج بين تقنيات البناء القديم وضرورات الراحة الحديثة والمعاصرة. كانت صاحبة الفندق سيدة لبنانية. ويوجد بالفندق مقهى صغير يقدم الوجبات الخفيفة المحلية اليمنية، بالإضافة إلى مطعم يقدم المطبخ اليمني، مع مجموعة متنوعة وصغيرة من الأطباق القارية. يقع المطبخ على الشرفة العالية للفندق وتعتبر مكاناً مميزاً حيث بإمكانك أن تتمتع بإطلالة ساحرة على مدينة صنعاء القديمة، وقضاء يوم بأكمله بالعمل على الشرفة مستغرقاً بإنهاء أعمال متراكمة لا تنتهي. ترفع رأسك فجأة لتتذكر بأنك في الجزء الآخر من العالم: اليمن. ولعلك تحاول تذكّر ما الذي أتى بك إلى هنا!
كما بإمكانك الجلوس والدردشة مع السكان المحليين والأجانب المقيمين أثناء تناول وجبة الفطور أو احتساء القهوة أو الشاي عند المساء. كما تسنى لنا زيارة تلك المدينة التاريخية الفريدة شيبام كوكبان، وهي إحدى المدن ذات النمو السكاني تتبع جغرافياً لمحافظة المحويت وإدارياً لمديرية شبام كوكبان. تعاقبت عليها العديد من الحضارات، وقد سكنها يهود اليمن في القدم، وهي مسقط رأس الرحالة والعلامة زكريا الظهيري.
كانت تسمى قديماً "يحبس" وهو اسم حميري، في القرن السابع قبل الميلاد، كانت واحدة من مدن مملكة "نشن"، مدينة السوداء في الجوف إلى جانب وادي ظهر وغيرها. وقد وصلت هذه المدينة إلى رقي ثقافي وديني رفيع تمثل بنحت الصخور لتشكل فيها غرف تم استخدامها كمقابر، وهي تنتشر على صخور جبل اللو المواجهة للمدينة، وفي الجانب الديني، فقد كان هناك معبد الإلهين "عثتر" و"المقة" على سفح جبل اللو يشرفان على المدينة وشيدت الطريق إليهما، والتي تصل من الأعلى إلى كوكبان. ويوجد في شبام كوكبان الكثير من المناطق الأثرية، منها قشلة كوكبان وبوابة المدينة وقبة المنصور الفريدة في زخارفها وبنائها بمدينة كوكبان ومدافن الحبوب المنحوتة في الجبل الصم وهي ذات طراز معماري فريد في بيوتها، كما أن السدود الحميرية والأيوبية بمدينة كوكبان وخارجها، والمدرجات المؤدية إلى كوكبان من شبام لها قيمة تاريخية وجمالية بالغة.
*كاتبة وصحافية أردنية من أصل فلسطيني.
*نقلًا عن رصيف22